تابع (محمد باري) خروجه الهادئ من غرفة نومهِ وفتح الباب الخارجي المتهالك، بما يكفي فقط لمروره للخارج، فزوجته تستحق نومها هذا؛ لأن عليها أن تستيقظ للعمل خلال ساعة. لابد وأن أفضل صديقٍ لـ (باري)، سيكون في انتظاره في الزقاق، ولابد أنهما سيسيرانِ معاً إلى مسجدٍ قريبٍ من أجل صلاةِ الفجر. ولكن هذا الصباح، كان الزقاق خالياً، ولم يكترث (باري) بالأمر؛ فأحياناً يتأخر صديقه في النوم حتى شروق الشمس.
كان الوقت في شهر ديسمبر في كازابلانكا، العاصمة الاقتصادية المغربية، مترامية الأطرافِ على ساحل المحيط الأطلسي في شمال إفريقيا، وقد أزاد ضبابُ المحيطِ من برودة ما تبقى من الظلام. كانت أسنان (باري) تصطك، وهو يخلع حذاءه خارج المسجد، ويضعه في أحد مربعات حفظ الأحذية. وانتهي من شعائر الوضوء في الحمام، ثم انتقل حافي القدمين إلى حرم المسجد، الدافئ بفعل حرارة الأجسام؛ فهناك عدة مئاتٍ من الناس بالفعل، مصطفين على الأرضية في صفوفٍ بمواجهة الشرق. كان دفء الحرم محل ترحابٍ، إلا أن صلاة الفجر استغرقت عشر دقائق فقط.
في الظروف العادية، كان سيلوذ كلٌ من (باري) وصديقه عند خروجهما من المسجد إلى مقهىً بالجوار؛ فإذا فات أحدهما أو كلاهما صلاة الفجر، كانا دائماً يتقابلان في الداخل. كانا دائماً يجلسان، ويتحدثان لساعاتٍ، بينما يسرع الناس ذوي الأعمال دخولاً وخروجاً. ولكن هذا الصباح، وصل (باري) وحده إلى هناك، وتناول قهوته وحده، وقرأ الجرائد وحده، وشاهد الجزيرة وحده، فانتابه القلق متسائلاً عن المكان الذي يمكن لصديقه أن يكون فيه الآن؛ فالمكان الذي ينام فيه ليس ملكاً له، حسب علمه، ودائماً يكون عليه إخلاؤه مبكراً، حتى لا يُمسك به الرجال الذين يديرونه.
أمن الممكن أن يكون قد غط في نومه؟ أو ربما يكون قد نام حتى الضحى؟
شعر (باري) في النهاية، أن عليه مغادرة مقعده المعتاد بالمقهى، ليطمئن على صديقه، وليعرف لِم تركه وحيداً هذا الصباح، وهو على علمٍ بوجهته، فهو يعرف المكان جيداً.
لقد كان المستودع الضخم مُحاطاً بجدارٍ معدنيٍ مرتفعٍ، طلاه أحدهم باللون الأحمر منذ زمنٍ بعيدٍ. وعند أحد النهايات، يتاخم الجدار حقلاً من الحصى والمخلفات، مشطوراً بمسار القطار، ذلك الذي يقسم المدينة إلى نصفين، حيث يجتمع الناس هناك ليلاً ليتسكعوا ويثملوا. لم يُقدمُ أحدٌ على تخطي هذا الجدار، فليس من المفترض أن يدخل هذا المكان، إلا مَنْ يعملون به. يخيم الصمت عادةً على هذا المكان.
إلا أن ذلك ليس هو الحال في هذا الصباح؛ فعندما وصل (باري) إلى البوابة الأمامية المرتفعة، كانت مُحاطةٌ بأمن الدولة، ودزينة من رجال الشرطة بزيهم الرسمي، وعلى محيط رؤوسهم شريطاً أصفراً، وقوات مساعدة ببزاتها الخضراء، تقف لتحرس المدخل. ومخبرون بملابسٍ مدنيةٍ، يعدون دخولاً وخروجاً.
“من أنت، وماذا تريد؟”، هكذا نبح أحدهم.
”أبحث عن، عن أحد أصدقائي،” رد عليه (باري).
نظر المخبر في إحدى عينيه، وجذبه من ساعده إلى خلف البوابة، أمام حشدٍ صاخبٍ من رجال الشرطة، وكانوا ينحنون لأسفل ويحدقون لأعلى ويضعون علاماتٍ، ويلتقطون صوراً، ويتجادلون مع بعضهم البعض.
كانت هناك رائحةٌ في الهواء يعلوها الصدأ.
“أكان هذا أحد أصدقائك؟“، سأل المخبر بفظاظة ومشيراً بيده.
أدار (باري) رأسه تجاه درجات السلم الحجري، التي تقود إلى مأوى الحارس، حيث ينام صديقه دائماً، وما رآه لم يفهمه في البداية، فكانت درجات السلم غارقةً باللون الأحمر، وكان هناك شيءٌ كبيرٌ يرقد عليها. كانت عليها لحيةٌ ملطخةٌ بالدماء، وزوجٌ من الأسنان، وملابسٌ. وكانت هناك رأسٌ، ولكنها كانت مشوهةٌ لشكلٍ مختلفٍ. بدأ (باري) يشعر بحرارةٍ ترتفع في رأسه وحلقه، وبدأت فرائصه ترتعد، ثم أصبح بقية جسده على هذا الحال، ولم يستطع التنفس، ثم فقد توازنه.
ثبته المخبر من خلال ساعده، الذي كان لا يزال قابضاً عليه بإحكامٍ بيده القوية.
كان الملازم الذي استجوب (باري) على مدار الأيام الثلاثة التالية يرتدي الجينز مع سترة رمادية بلون الفحم. لقد كان الملازم (جابر)، أنيقاً وأكثر استرخاءً من أولئك الرجال في المستودع. ربما يكون قد سئم عمله؛ فكان قلما ما يرفع صوته، ولم يهن (باري) أبداً، ولا ذلك المعتقل الآخر، وبدا عليه أنه يصيغ أسئلته بعناية. وبدلاً من أن يشير في حديثه إلى الضحية المقتول باسمه، كان دائماً يسميه (المرحوم)، ومعناها باللغة العربية “ذلك الشخص الذي نال الرحمة”.
وفي اليوم الثالث، خاض في نفس مجموعة الأسئلة التي سألها في اليوم السابق، واليوم الذي قبله.
“هل أنت متأكد من أن المرحوم، لم يكن أبداً متورطاً في أي مشاكل؟“، الملازم يسأل.
“على الإطلاق“، ردَ (باري).
“كيف يمكنك أن تصف شخصيته؟“
قام (باري) بتمشيط لحيته الهزيلة، المليئة بالملح والفلفل بأظافره وشكلها بأصابع يديه، وقال: “لقد قلتُ بالأمسِ أنه كانت له سمعةً طيبةً مع جميع جيرانه وكان يذهب للصلاة في المسجد كل صباح”.
هزَّ المُعتَقَل الجالس بجانب (باري) في مكتب الملازم رأسه بقوة.
“آخر مرة رأيته فيها؟“
“الليلة السابقة لليلة التي عثرتم عليه فيها“، أجاب (باري)، “فكنت أنا ومعي (شريف) بائع الكتب المتجول، وتناولنا معه صحناً من الحريرة”.
“أكان المرحوم، شارد الذهن، أو مختلاً؟”
”لا، بل كان هادئاً ويمكن أن تصفه بأنه كان متفائلاً دائماً، إلى حدٍ ما؛ فقد قال لي أنه في طريقه لعقد صفقةٍ صغيرةٍ، وكان يتوسم في أن الأمور ستتحسن”.
كان الملازم طوال ذلك الوقت جالساً على مكتبه. ثم فجأةً وقف ونظر إلى (باري) الجالس، والذي اضطر لرفع عنقه لمواجهة أعين الملازم.
“ما المدة التي اعتاد فيها المرحوم النوم في هذا المكان؟ ما الفترة التي نامها هناك!”
رد (باري) منتفضاً:
“الحقيقة“.
“خمس سنوات“.
فردد جبريل: “خمس سنوات“، واستطرد: “وهل حدث لك أن زرته في الداخل؟ “
“أحيانا“، أجاب (باري).
“كثيراً أم مرات قليلة؟“
“ليس كثيراً. نادراً جداً“، لم يكن هذا حقيقياً.
“هل زاره آخرون هناك؟ هل كان هذا أمراً عادياً بالنسبةِ له، أن يستقدم أناساً إلى هناك؟“
يكاد (باري) أن يشعر بنبضات قلبه، “لابد وأن الملازم لاحظ الدماء المندفعة إلى وجهي”، هكذا كان يفكر، وقال: “نعم، أتذكر أنني كنت قد أتيت في بعض المرات وطرقت الباب، وكان يقول لي إن لديه أناسٌ بالداخل، وأن عليَّ أن أرجع إليه فيما بعد“.
تحرك الملازم ببطء عائداً إلى الكرسي الموجود خلف مكتبه، مثبتاً ناظريه على المعتقل الآخر.
فالرجل الجالس بجانب (باري)، هو رجلٌ يُدعى (عطار)، وكان خائفاً بشكلٍ واضحٍ، خوفاً يتزايد كل يوم. تركت الشرطة (باري) يذهب، في حوالي الـ 7 مساءً الليلة الماضية، مع تعليماتٍ بأن يعود في الصباح التالي، ولكنهم أبقوا على (عطار)، إلى وقت يعلمه الله. وعندما عاد (باري)، وجد (عطار) وحده في المكتب، يترقب وصول الملازم. وكان مُنكباً على وجهه، نائماً في كرسيه. ربته (باري) على كتفه، فانتفض (عطار)، وبكى قائلاً: “لا حول ولا قوة إلا بالله!” ونظر باهتياجٍ حوله في عدة اتجاهات قبل أن يضع عينيه الحمراوين على (باري). وقال: “أنا أسف“، “أنا آسفٌ للغاية“.
واشتد الأمرُ في اليوم الثالث من الاستجواب؛ حيث كان هناك صوتُ شغبٍ بعيدٍ مسموعٍ، منبعثاً من الدور الأرضي، وبدا أعلى وأقرب بعد ذلك، وكان هناك صوت ضجيج كما لو كان صريراً لدرجٍ يُضرب بأحذيةٍ مبللة. كان هناك صراخٌ واسترحامٌ صامتٌ صادرٌ من الأنوف. دخل إلى الغرفة أربعةٌ من المخبرين، جميعهم مبللون بالعرق، ومعهم رجلٌ صغيرٌ مصفدٌ بالأغلال، وكان يعرج، وعلى معصمه الأيسر ضمادة ملطخة بالدماء. لقد كانت هناك ثمانيةٌ من الأيدي موضوعةٌ على جسده.
كان لـ (باري) ولدٌ في عمره.
“ما أردت أن أعرفه هو…“، هكذا بدأ أحد المخبرين الكلام.
ولكن الملازم أومأ له ليتوقف عن الكلام.
“أيها الأخوة“، قائلاً الملازم، “نحن نريد أن نسأل عما إذا كان أحدٌ منكم قد رأي هذا الرجل من قبل“.
ونظر إلى (عطار)، الذي هز رأسه.
“الأخ (محمد باري) ؟“
“لم أره أبداً في حياتي من قبل، ولابد أنه ليس من منطقتنا، لأنني أعرف أنني كنت سأراه ولو لمرة أو مرتين لو كان من هنا“، مصرحاً، ومبالغاً في الأمر قليلاً، وقد أدرك ذلك.
عض الملازم أصابعه، وظهر كاتبٌ من بعيدٍ عبر القاعة ومعه ورق. وطلب من (باري) و(عطار) التوقيع على إقراراتٍ، بأن الشاب غريبٌ عليهما.
“إخواني“، قال الملازم، “أنتم مفرجٌ عنكم“.
اندفع (عطار) لخارج الغرفة، وبالكاد قال: “في حفظ الله”.
لم يتحرك (باري) في البداية. ونظر إلى الولد المُكبَّل، لأقصى فترة استطاعت عيناه أن تنظرها. بدأ دور هذا الرجل في حياة (باري) البسيطة، يلوح إلى ذهنه. وقف (باري)، وثبَتَ نفسه، واقترب بحذرٍ باتجاه الملازم. وأخذ نفساً عميقاً.
“هل هذا هو الرجل؟“ (باري) سائلاً.
فأومأ الملازم برأسه.
“لماذا قام بـ … “
”أهم شيء هو أننا قبضنا عليه، وسوف يعترف.”
نفسٌ عميقٌ آخر.
”أهذا كل شيء؟” (باري) سائلاً.
فقال الملازم: “أخي محمد”، ثم استطرد، “حاول المضي قدماً”.
ذهب (باري) إلى الفراش في هذه الليلة، يبكي ويبكي بلا انقطاع.
لأنه كان معتقلاً؛ فاتته الجنازة، وكذلك (عطار).وسط دموعه هذه، أيمكن لـ (باري) تصوير الأمر، حيث ساعد في حالات دفن لجيران فقراء من قبل. من مشرحة المدينة العظيمة قبالة الطريق السريع، يُلقى الجسد في سيارة إسعافٍ متهالكة، باللونين الأحمر والأبيض، ويُنقل مسافة 250 ياردة إلى مقابر الرحمة الفسيحة. أسفل طريقٍ طويلٍ مليءٌ بالزهور، حيث يَمنح مبتورو الأطراف والأيتام البركات مقابل الصدقة، وتصل الحقيبة المظلمة إلى حفرتها. هناك عددٌ قليلٌ من المدافن الخاصة بالعائلات في كازابلانكا؛ حيث تمتلئ الممرات بالجثث بترتيب وصولها. ويؤدي رجل دينٍ لم يقابله الضحية ولو لمرة، صلاة الجنازة، وهي صلاةٌ خاصة بالموتى. يمكن تمييز القبر برقمٍ طويلٍ.
رقد (باري) مستيقظاً طوال الليل.
وعندما نضبت دموعه، بدأ يطرح أسئلةً خاصةً به.