أصدقائي الأعزاء، في التدوينات الأخيرة, ناقشنا عددا من القضايا المتعلقة بوسائل الإعلام العربية ودورها في النهوض بالتنمية الاجتماعية والسياسية والمجتمع المدني وإقامة اقتصاد قوي. كما تناولنا تدرجات الجدارة بين أشكال غير ديمقراطية للحكومات في العالم اليوم، بدءاً من الدكتاتوريات الجشعة إلى الخيرين من الدول الورثية للقوى الآسيوية-وفكرة أن النموذج الديمقراطي في مجمله ليس بالضرورة ذا صلة لكل بلد عربي في الوقت الحاضر. اليوم سوف نبدأ بتوصيل هذه الأفكار، بالنظر إلى حالة التربية الإعلامية في العالم العربي-بمعنى، تدريب الجيل القادم من الصحفيين في جميع أنحاء المنطقة.
كما يعرف جيدا محترفى وسائل الإعلام العربية ، معظم برامج التربية الإعلامية والتدريب في المنطقة اليوم تنبع, بطريقة أو بأخرى, من مصادر أجنبية–ومعظم المصادر من حكومات ديمقراطية غربية ومنظمات غير حكومية وتابعة لها. تميل إلى تعليم قيم وتقنيات الصحافة كما تٌمارس في الديمقراطيات المتطورة, وبالأخص اجراء التحقيقات الصحفية العميقة لكشف اسرار الفساد الحكومي، وأهمية فرض الضغط على الحكومات العربية لوقف فرض رقابة على وسائل الإعلام. هذه الأفكار هامة وذات صلة في الدول الديمقراطية، فغالباً ما يشار إلى وسائل الإعلام فيها “بالسلطة الرابعة” لأنه بفضح المسؤولين ذوى النفوذ لممارساتهم الفاسدة، فإنهم يثيرون الضغط العام لمحاسبة هؤلاء المسؤولين. حرية الصحفيين لخدمة هذه الوظيفة إلى حد كبير محمية.
ولكن في بعض المجتمعات غير الديمقراطية قد تكون هذه الممارسات عكسية. والسبب هو أنه حيث لا يوجد فصل بين السلطات أو تكون سيادة القانون ضعيفة، فالتعيير من السلوك الفاسد لا يؤدي بالضرورة إلى تصحيح له، ويمكن أن يؤدي إلى مزيد من اليأس والانهزامية في صفوف السكان. وحتى الآن، فمؤسسات التدريب في مجال الصحافة الغربية لا تأخذ هذه المشاكل في الاعتبار والمتلقين العرب لهذا التدريب غالبا ما يشعرون أنه ليس مفيداً لهم.
ونظرا لهذا الوضع، فإن السؤال المطروح هو ما إذا كان هناك نماذج بديلة لتعليم الصحافة التي قد تناسب بشكلٍ أفضل الدول التي ليست ديمقراطية بالكامل. الجواب هو أن مثل هذه النماذج متوفر – وعلى الرغم من أنها ليست معروفة جيدا في العالم العربي، فإنها تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار – لكل من مزاياها وعيوبها.
يأتي مثال بارز من سنغافورة – بلد صغير في بضعة عقود فقط تمكن من التغلب على الصراعات الداخلية العنيفة والضغوط الخارجية ليصبح أحد الاقتصادات الأكثر ديناميكية في آسيا. البلد ليس ديمقراطية، وليس من المحتمل أن يصبح كذلك في المستقبل المنظور.
ان سينغافورة متنوعة عرقياً ودينياً . في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كانت هناك صراعات طائفية دامية و أعمال شغب عرقية – و يعتقد أن وسائل الإعلام الحزبية قد أججت أعمال العنف ، إلى حد ما ، جاعلةً الأمر أكثر صعوبة لتحقيق المصالحة الوطنية. من هذه البيئة المشحونة نشأت نظرية جديدة حول وسائل الإعلام السنغافورية – وهي بالتحديد أنه ينبغي أن تكون شريك الحكومة في التنمية الوطنية وحل المشاكل والأزمات. وهذا مبدأ تؤمن به وسائل الإعلام السنغافورية إيمانا عميقا اليوم، وقد حقق نتائج إيجابية بالمقارنة مع الدول غير الديمقراطية الأخرى: خلال الوباء الخطير لفيروس السارس منذ ما يقرب من 15 عاما مضت، على سبيل المثال ، فإن الحكومة الصينية قمعت أي ذكر لمخاطر مرض السارس في وسائل الإعلام. في سنغافورة ، من ناحية أخرى ، عملت الحكومة مع وسائل الإعلام لرفع مستوى الوعي حول المشكلة ونشر المعلومات المفيدة حول كيفية تجنب العدوى. أما بالنسبة للفساد، فيالصحفيون في سنغافورة يميلون إلى تجنب الكتابة عن ذلك، متبنيين وجهة النظر أنه من الأفضل أن تُحل مثل هذه المشاكل بهدوء، وليس على مرأى من الجميع. وفي المسائل المتعلقة بتجمبل التعددية العرقية والدينية لسكان سنغافورة، وسائل الإعلام قبل كل شيء مروج للوئام والتعايش، هناك تسامح قليل مع أى صحافة تغذى الاستقطاب أو العنصرية. وقد تم وضع إطار تعليمي مفصل لتعليم هذه المفاهيم، و صناعة وسائل الإعلام المحلية في سنغافورة قوية ومربحة ، ومحبوبة من قبل السكان.
ولكن النموذج السنغافوري ينجح فقط لأن الشعب لديه ثقة في المؤسسات الرسمية وينظر إلى الحكومة على أنها حميدة ومفيدة. اذا اضطهدت الحكومة سكانها أو سرقت الأموال العامة، فسوف تنعدم الثقة وتٌكره وسائل الإعلام التي هي حليفة معها. وبالنسبة للبلدان التي لا يثق السكان فى قيادتها، بالتالي، فإن النموذج لا يمكن تطبيقه مباشرةً او كاملةً.
وحتى الآن، في الوقت نفسه، فإن بعض جوانب النموذج قد تكون في الواقع مفيدة في بعض الدول العربية غير الديمقراطية. لأن في الواقع، بعض القيادات العربية تتمتع باحترام شعوبها، إذا بدرجات متفاوتة – ويميل بعض الإعلاميين في هذه البلدان أن يشعر أنه على الأقل من المهم تشجيع ومكافأة الحكم الرشيد من خلال التغطية الإيجابية كما هو الحال بالنسبة لإنتقاد أو مهاجمة الحكم السيئ من خلال التغطية السلبية.
باختصار، في حين أن هناك جوانب من نموذج الديمقراطية الغربية من التدريب في مجال الصحافة التي قد يكون من المفيد محاكاتها، فهناك أيضا نماذج أخرى لا ينبغي تجاهلها. التحدي لمربيى الإعلام في العالم العربي هو تحقيق التوازن الصحيح، وفقا للإحتياجات الخاصة للغاية والمختلفة لكل بلد وصفاته الفريدة من نوعها.
Speak Your Mind